كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلابد لَنَا مَعَ هَذَا التَّذْكِيرِ بِمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ، مِنْ أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ دِينًا تَتَحَقَّقُ بِهِ هِدَايَةُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْدَرُهُ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ مَصَادِرِ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ، لِتُذْعِنَ لَهُ النَّفْسُ، وَتَخْضَعَ الْإِرَادَةُ، وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُ حُكَمَاءِ أُورُبَّةَ قَوَاعِدَ لِدِينٍ عِلْمِيٍّ عَقْلِيٍّ اسْتَحْسَنُوهَا وَلَمْ يُذْعِنُوا لَهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُذِعِنُ إِلَّا لِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَعْلَى مِنْهُ وَلَهُ السُّلْطَانُ وَالْقَهْرُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا يُدْرِكُهُ بِكَسْبِهِ فَهُوَ يَرَاهُ دُونَهُ وَمَقْهُورًا لِإِرَادَتِهِ؛ لِذَلِكَ لَا يَخْضَعُ الْبَشَرُ لِكُلِّ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ صَوَابٌ وَحَقٌّ فِي نَفْسِهِ، إِلَّا إِذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْقَطْعِ مِنْ سِيرَةِ أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَالِاخْتِلَافُ مِنْ طَبْعِهَا، فَالدِّينُ الَّذِي لابد مِنْهُ لِإِصْلَاحِ الْبَشَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ، وَلَا يَثْبُتُ هَذَا فِي عَصْرِنَا هَذَا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ.
(7) مَبْلَغُ عِلْمِ الْإِفْرِنْجِ بِالْإِسْلَامِ وَحُكْمِهِمْ عَلَيْهِ:
بَزَغَتْ شَمْسُ الْإِسْلَامِ فِي عَصْرٍ كَانَتْ فِيهِ جَمِيعُ شُعُوبِ الْأَرْضِ مُتَسَكِّعَةً فِي دَيَاجِيرِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَكَانَ آخِرَ عَهْدٍ لِأُورُبَّةَ بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالْحَضَارَةِ عَهْدُ الرُّومِ (الرُّومَانَ) الَّذِينَ فَتَحُوا أَعْظَمَ مَمَالِكِ الشَّرْقِ الْمُصَاقِبَةِ لِأُورُبَّةَ، وَكَانُوا قَوْمًا وَثَنِيِّينَ، ثُمَّ سَطَعَ عَلَيْهِمْ بَرِيقٌ مِنْ نُورِ الْإِنْجِيلِ، وَانْتَشَرَتْ فِيهِمُ النَّصْرَانِيَّةُ دِيَانَةُ الزُّهْدِ وَالْإِيثَارِ وَالسَّلَامِ، وَلَكِنْ كَانَ إِفْسَادُهُمْ لَهَا أَقْوَى مِنْ إِصْلَاحِهَا لَهُمْ، فَأَحَالُوا تَوْحِيدَهَا وَثَنِيَّةً. وَحَوَّلُوا سِلْمَهَا حَرْبًا، وَبَدَّلُوا زُهْدَهَا إِسْرَافًا وَطَمَعًا، وَطَهَارَتَهَا فُحْشًا وَدَنَسًا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ الَّذِي كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ وَهُوَ الْمُصْلِحُ الْأَعْظَمُ، الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ وَسَمَّاهُ الْفَارْقِلِيطَ رُوْحَ الْحَقِّ، وَوَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ سَيُعَلِّمُهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، لَمْ يَلْبَثِ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ الْبَائِسُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِ أَنْ دَكُّوا لَهُمْ مَا بَنَوْهُ مِنَ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ فِي الشَّرْقِ، وَثَلُّوا لَهُمْ عُرُوشَ مَا اسْتَعْمَرُوا مِنَ الْمَمَالِكِ وَطَرَدُوهُمْ مِنْ سُورِيَةَ وَمِصْرَ وَأَفْرِيقِيَّةَ، فَأَرَزُوا وَانْكَمَشُوا إِلَى أَوْطَانِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ فِي أُورُبَّةَ فَصَارَ الْعَرَبُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَغْزُونَهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِي أُورُبَّةَ نَفْسِهَا وَتَلَاهُمُ التُّرْكُ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ، فَصَبَرُوا إِلَى أَنْ أَمْكَنَهُمْ جَمْعَ كَلِمَةِ دُوَلِ أُورُبَّةَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَمَالِكِ الشَّرْقِيَّةِ بِالدَّعَايَةِ إِلَى إِنْقَاذِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَهْدِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْهُمْ، فَكَانَتِ الْحُرُوبُ الصَّلِيبِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ فِي التَّارِيخِ بِفَظَائِعِهَا وَفُجُورِهَا وَمَفَاسِدِهَا وَفَوَاحِشِهَا وَمَطَامِعِهَا، الَّتِي اقْتُرِفَتْ بِاسْمِ الْمَسِيحِيَّةِ الطَّاهِرَةِ الْبَرِيئَةِ مِنْهُ وَمِنْ أَهْلِهَا.
كَانَ مِنْ تَمْهِيدِ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ دُعَاةِ هَذِهِ الْحَرْبِ وَمُوقِدِي نَارِهَا أَنْ أَلَّفُوا كُتُبًا وَرَسَائِلَ كَثِيرَةً، وَزَوَّرُوا خُطَبًا بَلِيغَةً، وَنَظَمُوا أَنَاشِيدَ وَأَغَانِيَ مُهَيِّجَةً كُلَّهَا فِي الطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتَشْوِيهِ سِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُعْرَفْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَتَشْوِيهِ الْمَحَاسِنِ، وَمُحَاوَلَةِ جَعْلِ النُّورِ ظَلَامًا، وَالْحَقِّ بَاطِلًا، وَالْفَضِيلَةِ رَذِيلَةً، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اطَّلَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَكْتَوْبَاتِ بَعْدَ تِلْكَ الْحُرُوبِ بِقَرْنٍ، أَدْهَشَهُمُ الْعَجَبُ مِنْ تِلْكَ الْأَبَاطِيلِ الْمُخْتَرَعَةِ الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى بَالٍ، وَلَمْ تَلُحْ لَهَا صُورَةٌ فِي خَيَالٍ، لِمُبَايَنَتِهَا لِلْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَالسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْفُتُوحَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، رَحْمَةً وَعَدْلًا، وَكَرَمًا وَفَضْلًا، وَشَرَفًا وَنُبْلًا، وَكَذَا مَا دُوْنَهَا مِنَ الْحُرُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَمِنْ غَرَائِبِ ذَلِكَ الْبُهْتَانِ الْمُشَوَّهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا بَيْنَ دِينِ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ الْمُجَرَّدِ مِنْ جَمِيعِ أَوْهَامِ الْوَثَنِيَّةِ دِينَ وَثَنِيَّةٍ وَعِبَادَةِ أَصْنَامٍ- وَأَنَّهُمُ اخْتَلَقُوا لَهُ ثَالُوثًا وَأَصْنَامًا وَزَعَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا نَفْسَهُ صلى الله عليه وسلم ادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ، وَاخْتَرَعُوا لَهُ مِنَ الْمَطَاعِنِ الْفَظِيعَةِ مَا تَعْجَزُ غَيْرُ تِلْكَ الْعُقُولِ الْمُظْلِمَةِ الْقَذِرَةِ عَنْ تَخَيُّلِهِ، وَيَتَنَزَّهُ كُلُّ ذِي وِجْدَانٍ بِشْرِيٍّ سَلِيمٍ عَنِ افْتِرَائِهِ، وَيَسْتَحِي غَيْرُ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنَ النُّطْقِ بِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ إِلْمَامٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ فِي (كِتَابِ الْإِسْلَامُ. خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ) لِلْمُسْتَشْرِقِ الْفَرَنْسِيِّ (الْكُونْتِ هِنَرِي دِي كَاسْتِرِي) وَتَرْجَمَتُهُ الْعَرَبِيَّةُ لِأَحْمَد فَتْحِي بَاشَا زُغْلُول، وَحَسْبُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ أَسْمَاءَ بَعْضِ تِلْكَ الْكُتُبِ الَّتِي لَفَّقُوهَا، وَالْأَنَاشِيدِ وَالْأَغَانِي الَّتِي نَظَمُوهَا فِيمَا ذَكَرَ، لِتَهْيِيجِ الْمَسِيحِيِّينَ عَلَى الزَّحْفِ مِنْ أُورُبَّةَ إِلَى الشَّرْقِ؛ لِإِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَضَاءِ عَلَى دِينِهِمْ، وَكَانَتْ كُلُّ تِلْكَ الْمُفْتَرَيَاتِ الَّتِي تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَيَكَادُ يَتَصَدَّعُ لِتَصَوُّرِهَا الْحَجَرُ الْجُلْمُودُ، تُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ مِنْ جَمَاهِيرِ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ لِصُدُورِهَا عَنْ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ الْمَعْصُومَةِ عِنْدَهُمْ، وَلَا تَزَالُ سُمُومُهَا تَسْرِي فِي أَرْوَاحِ الْمَلَايِينِ مِنْ نَابِتَتِهِمْ بِمَا يَنْفُثُهُ فِيهَا الْقِسِّيسُونَ الْمُرَبُّونَ، وَمَا يَكْتُبُهُ وَيَنْشُرُهُ الْمُبَشِّرُونَ، كَمَا بَيَّنَهُ اللُّورْدُ هِدِلِي الْإِنْكِلِيزِيُّ- بَعْدَ إِسْلَامِهِ- فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ تُرْجِمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا نَزَالُ نَرَى فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ مُفْتَرَيَاتِهِمْ بِمِصْرَ وَغَيْرِهَا مَا نَجْزِمُ بِأَنَّ الَّذِينَ يُدَوِّنُونَهُ فِي الْكُتُبِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ، وَنَسْتَدِلُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ نَفْسِهَا؛ لِاسْتِحَالَةِ إِبَاحَتِهَا لِلْكَذِبِ الَّذِي هُوَ شَرُّ الرَّذَائِلِ كُلِّهَا.
زَحَفَتِ الشُّعُوبُ الْأُورُبِّيَّةُ عَلَى سُورِيَةَ وَفِلَسْطِينَ وَمِصْرَ لِإِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْتَرَفُوا فِيهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ مِثَالِ الْكَمَالِ وَالطَّهَارَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالزُّهْدِ وَالرَّحْمَةِ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْأَرْجَاسِ وَالرَّذَائِلِ وَالْأَطْمَاعِ وَالْقَسْوَةِ، مَا لَمْ يَتَدَنَّسْ بِمِثْلِهِ شَعْبٌ مِنْ شُعُوبِ الْوَثَنِيَّةِ وَلَا الْقَبَائِلِ الْهَمَجِيَّةِ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ، ثُمَّ عَادُوا مِنَ الشَّرْقِ مَخْذُولِينَ. مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَفَادُوا مِنْ مَعْرِفَةِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَضَائِلِ وَالْعَدْلِ مَا كَانَ هُوَ السَّبَبَ لِنَهْضَةِ أُورُبَّةَ الْأَخِيرَةِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالسِّيَاسَةِ. يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ فَلَاسِفَةُ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّارِيخِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا رِجَالُ السِّيَاسَةِ وَدُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ فَلَا يَزَالُونَ يَفْتَرُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلَا تَزَالُ سِيَاسَةُ أُورُبَّةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَرْبًا صَلِيبِيَّةً إِلَى الْيَوْمِ.
أَلَيْسَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِالْإِيجَازِ سَبَبًا كَافِيًا لِجَهْلِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْ شُعُوبِ أُورُبَّةَ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ. وَكِتْمَانِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَارِفِينَ لِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْهُ، وَتَشْوِيهِ رِجَالِ السِّيَاسَةِ وَالدَّعَايَةِ الدِّينِيَّةِ لَهُ، وَمُحَاوَلَةِ طَمْسِ نُورِهِ كُلَّمَا لَاحَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْهُ؟ بَلَى، وَإِنَّهُمْ لَيَجِدُونَ مِنْ سِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينِ وَالْخُرَافِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا يَجْعَلُونَهُ حُجَّةً عَلَى الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ، بِدَعْوَى أَنَّ سُوءَ حَالِهِمْ مَا جَاءَتْهُمْ إِلَّا مِنْ تَعَالِيمِ دِينِهِمْ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مَا جَاءَتْهُمْ إِلَّا مِنْ جَهْلِهِمْ لَهُ، وَتَرْكِهِمْ لِهِدَايَتِهِ، وَإِنَّهُمْ لِيَجِدُونِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ أَفْسَدَهُمُ التَّفَرْنُجُ، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ عَنْ دِينِهِمْ مَنْ يُشَايِعُهُمْ أَوْ يُؤَيِّدُهُمْ فِي مَطَاعِنِهِمْ.
زِدْ عَلَى هَذَا سَبَبًا ثَالِثًا، وَهُوَ فُشُوُّ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَإِقْرَارُ بَعْضِ الْحُكُومَاتِ لَهَا حَتَّى الْحُكُومَةَ الْمِصْرِيَّةَ الَّتِي جَعَلَتْ مِنْ أَسْبَابِ مُشَاقَّتِهَا لِحُكُومَةِ الْحِجَازِ بِدْعَةَ الْمَحْمَلِ، وَالَّتِي تَأْذَنُ بِاحْتِفَالَاتِ الْمَوَالِدِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْمَسَاجِدِ، أَضِفْ إِلَى هَذَا سَبَبًا رَابِعًا هُوَ عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ ضَعْفُ رِجَالِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ أَنْفُسُهِمْ، وَعَجْزُهُمْ عَنْ إِظْهَارِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ لِتِلْكَ الشُّعُوبِ، وَلِنَابِتَةِ الْمُسْلِمِينَ الْعَصْرِيَّةِ أَيْضًا بِالْبَيَانِ وَالْحُجَجِ الْمُنَاسِبَةِ لِحَالِ هَذَا الْعَصْرِ، وَمُقَاوَمَةُ بَعْضِهِمْ لِلْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ وَالْمَدَنِيِّ مَا اسْتَطَاعُوا، وَنِفَاقُ بَعْضِهِمْ لِلْأَجَانِبِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَهَؤُلَاءِ شَرُّ آفَاتِ الْإِسْلَامِ، وَأَعْدَى أَعْدَائِهِ، وَفِتْنَةٌ لِلَّذِينِ كَفَرُوا تَصُدُّهُمْ عَنْهُ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [60: 5].
هَذَا مُلَخَّصُ مَا يَصْرِفُ الْأُورُبِّيِّينَ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِسْلَامِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ.
(8) الرَّجَاءُ الْجَدِيدُ فِي اهْتِدَاءِ الْإِفْرِنْجِ بِالْإِسْلَامِ:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [41: 53] كَانَ نِظَامُ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَهُ رِجَالُ الدِّينِ فِي بِلَادِ النَّصْرَانِيَّةِ كُلِّهَا، وَحَيْثُ وُجِدَتْ لَهُمْ مَدَارِسُ وَكَنَائِسُ فِي غَيْرِهَا- كَانَ وَلَا يَزَالُ- مُهَيْمِنًا عَلَى الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَيْهَا شَيْءٌ يُخَالِفُ عَقِيدَتَهُمْ، فَإِنْ عَلِمُوا شَيْئًا مِنْهَا نَفَذَ إِلَيْهَا بَادَرُوا إِلَى نَزْعِهِ وَإِزَالَةِ تَأْثِيرِهِ، كَمَا يُبَادِرُ الْأَطِبَّاءُ إِلَى مُعَالَجَةِ مَنْ يُصَابُ بِمَرَضٍ مُعْدٍ أَوْ جُرْحٍ خَطِرٍ.
بَيْدَ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْفِكْرِ، وَحُبَّ الْعِلْمِ اللَّذَيْنِ تَغَلْغَلَا فِي أُورُبَّةَ بَعْدَ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ قَاوَمَا هَذِهِ السَّيْطَرَةِ الْكَنِيسِيَّةِ، فَوُجِدَ تَعْلِيمٌ حُرٌّ، وَتَفْكِيرٌ حُرٌّ، وَتَصْنِيفٌ حُرٌّ، وَلَكِنَّ التَّرْبِيَةَ الْحُرَّةَ لَا تَزَالُ قَلِيلَةً وَضَعِيفَةً بِمَا لِلتَّأْثِيرِ السِّيَاسِيِّ وَالدِّينِيِّ مِنَ الْقُوَّةِ وَالسُّلْطَانِ.
أَعْقَبَتْ هَذِهِ الْحُرِّيَّاتُ وَمَا اقْتَضَاهُ الْأَخِصَّاءُ فِي فُرُوعِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، مِنْ عِنَايَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِدِرَاسَةِ الْكُتُبِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَكَانَ مِمَّا أَثْمَرَتْهُ سِيَاحَةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبْلِهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، أَنِ اطَّلَعَ الْأَفْرَادُ بَعْدَ الْأَفْرَادِ مِنْ كُلِّ شَعْبٍ مِنْ شُعُوبِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى كُتُبِ الْإِسْلَامُ الصَّحِيحَةِ، وَتَرْجَمُوا كَثِيرًا مِنْ مُؤَلَّفَاتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ، وَشَاهَدُوا عِبَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحَاطُوا عِلْمًا بِتَارِيخِهِمْ وَسَمَحَ اتِّسَاعُ حُرِّيَّةِ الْعِلْمِ لِمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْهُمْ أَنْ يُصَرِّحُوا قَوْلًا وَكِتَابَةً بِمَا عَلِمُوا مِنْ ذَلِكَ، فَشَهِدَ الْكَثِيرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ بِأَنَّ عَقِيدَةَ الْإِسْلَامِ أَكْمَلُ عَقَائِدِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ الَّتِي يَتَقَبَّلُهَا الْعَقْلُ السَّلِيمُ بِالتَّسْلِيمِ، وَأَنَّ عِبَادَاتِهِ مُوَافِقَةٌ لِلْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّ أَحْكَامَهُ عَادِلَةٌ، وَقَدْ أَلَّفُوا فِي ذَلِكَ كُتُبًا كَثِيرَةً فَنَّدُوا فِيهَا مَطَاعِنَ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَنَارِ، مِنْ أَهَمِّهَا مَا جَاءَ فِي الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ (مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ) لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ جُمِعَتْ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ. وَمِنْهَا كِتَابُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِلْأُسْتَاذِ أَرْنُولْدَ الْإِنْكِلِيزِيِّ. وَقَدْ كَتَبَ فَيْلَسُوفُ التَّارِيخِ وَالِاجْتِمَاعِ غُوسْتَافُ لُوبُونُ الْفَرَنْسِيُّ رُقْعَةً بَرِيدِيَّةً لِأَدِيبٍ تُرْكِيٍّ بَعْدَ الْحَرْبِ الْكُبْرَى قَالَ فِيهَا: إِنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا كَبِيرًا فِي (حَضَارَةِ الْعَرَبِ)؛ لِيُثْبِتَ لِقَوْمِهِ أَنَّ الْعَرَبَ الْمُسْلِمِينَ أَسَاتِذَةُ أُورُبَّةَ كُلِّهَا فِي مَدَنِيَّتِهَا الْحَاضِرَةِ وَعُلُومِهَا. (قَالَ): وَلَكِنَّ التَّرْبِيَةَ الْإِكْلِيرْكِيَّةَ (الْكَاثُولِيكِيَّةَ) الْمُسَيْطِرَةَ عَلَى أَكْثَرِ الشَّعْبِ حَالَتْ دُونَ عِلْمِهِ وَإِذْعَانِهِ لِذَلِكَ. اهـ.
وَلَا نَزَالُ نَنْشُرُ بَعْضَ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ، وَكَانَ آخِرُهَا مَا نَشَرْنَاهُ فِي هَذَا الْعَامِ (1348 هـ) مِنْ مُقَدِّمَةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ لِلْعَالِمِ السُّوِيسْرِيِّ (مِسْيُو مُونْتِيهَ) الَّذِي أَظْهَرَ فِيهَا تَعَجُّبَهُ مِنْ إِيمَانِ نَصَارَى أُورُبَّةَ بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ مِنْ خَبَرِ نُبُوَّتِهِ مَا هُوَ خُلَاصَةٌ لِمَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
وَإِنَّمَا عَثَرَتْ أَفْكَارُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي عَثَرَتْ فِيهَا أَقْلَامُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ كَمَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَلَمْ يُوَفَّقُوا لِفَهْمِهَا وَلَا لِبَيَانِهَا كَمَا يَجِبُ، وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الْمُخَالِفَةِ لِتَقَالِيدِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ كَالطَّلَاقِ وَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَهِيَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مَسَائِلِ الضَّرُورَاتِ، ثُمَّ قَبِلَتْ جَمِيعُ شُعُوبِهِمْ وَحُكُومَاتِهِمْ حُكْمَ الطَّلَاقِ، وَأَفْرَطُوا فِيهِ بِمَا لَا يُبِيحُهُ الْإِسْلَامُ، وَلَوْلَا فُشُوُّ الزِّنَا فِي بِلَادِهِمْ لَاضْطُرُّوا إِلَى قَبُولِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَيْضًا، وَلاسيما أَهْلُ أُورُبَّةَ الَّذِينَ اغْتَالَتْ حَرْبُ الْمَدَنِيَّةِ الْأَخِيرَةُ زُهَاءَ عِشْرِينَ مِلْيُونًا مِنْ رِجَالِهِمْ.
وَتَصَدَّى بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْقَرْنِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ، ثُمَّ فِي غَيْرِهَا فَأَسْلَمَ بَعْضُ النَّاسِ بِدَعْوَتِهِمْ، عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَا تَزَالُ ضَعِيفَةً بِضَعْفِ عِلْمِ أَكْثَرِ دُعَاتِهَا، وَابْتِدَاعٍ فِي بَعْضِ الْهُنُودِ مِنْهُمْ، وَكَمَا أَسْلَمَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بِلُغَاتِهِمْ عَلَى كَثْرَةِ مَا فِي هَذِهِ التَّرَاجُمِ مِنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ، كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نَصَارَى الشَّرْقِ يُسْلِمُونَ فِي كُلِّ عَامٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْوُجَهَاءِ مِنْهُمْ وَأَصْحَابِ الْعَلَاقَاتِ الْمَادِّيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ بِعَشَائِرِهِمْ وَعُشَرَائِهِمْ يَكْتُمُونَ إِسْلَامَهُمْ، وَيُخْفُونَ عِبَادَاتِهِمُ الْإِسْلَامِيَّةَ عَنْهُمْ، وَقَدِ اعْتَرَفَ لِي وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَلْبَسُونَ (الْبُرْنِيطَةَ) بِإِسْلَامِهِ بَعْدَ مُعَاشَرَةٍ طَوِيلَةٍ كَانَ يَسْأَلُنِي فِيهَا سُؤَالَ الْمُسْتَفِيدِ عَنْ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ، وَيَتَلَقَّى أَجْوِبَتِي بِالِارْتِيَاحِ- وَلَكِنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيَّ كِتْمَانَ خَبَرِهِ.
وَكَانَ رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْإِدَارَةِ (قَائِمْقَامَ) فِي لِبْنَانَ صَدِيقًا لِوَالِدِي، وَكَانَ يَزُورُنَا فَيُكْثِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، ثُمَّ مَرِضَ فَعَادَهُ وَالِدِي بِدَارِهِ فِي مَرْكَزِ عَمَلِهِ فَخَلَا بِهِ، فَاعْتَرَفَ لَهُ فِي هَذِهِ الْخَلْوَةِ بِإِسْلَامِهِ وَاضْطِرَارِهِ لِكِتْمَانِهِ عِدَّةَ سِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّنِي أَشْعُرُ الْآنَ بِقُرْبِ الْأَجَلِ فَأُشْهِدُكَ عَلَى أَنَّنِي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَعَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ أَمُوتُ. وَلَوْ كَانَ لِلْإِسْلَامِ دَوْلَةٌ قَوِيَّةٌ عَزِيزَةٌ تُحْيِي حَضَارَتَهُ، وَتُقِيمُ شَرِيعَتَهُ لِرَأَيْنَا النَّاسَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ يَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا.
هَذَا وَإِنَّ الَّذِينَ يُعَاشِرُونَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ- الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْإِسْلَامَ الصَّحِيحَ وَيَقْدِرُونَ عَلَى بَيَانِهِ- مِنْ عُقَلَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ يَعْجَبُونَ مِمَّا يَسْمَعُونَهُ مِنْهُمْ، حَتَّى لَيَشُكَّ أَكْثَرُهُمْ فِي أَنَّهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
أَذْكُرُ أَنَّهُ قَالَ لِي اسْكَنْدَرُ كَاسْتِفْلِيسُ زَعِيمُ نَصَارَى طَرَابُلُسِ الشَّامِ فِي عَهْدِهِ- وَكَانَ قُنْصُلًا لِرُوسِيَّةَ وَأَلْمَانِيَّةَ فِيهَا- بِمُنَاسَبَةِ مُذَاكَرَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ بِدَارِهِ وَكُنْتُ تِلْمِيذًا: إِنَّ عِنْدَكُمْ مِنَ الْفَضَائِلِ مِثْلَ الْجِبَالِ وَلَكِنَّكُمْ دَفَنْتُمُوهَا وَأَخْفَيْتُمُوهَا بِسِيرَتِكُمْ، وَعِنْدَنَا شَيْءٌ قَلِيلٌ مَدَّدْنَاهُ وَكَبَّرْنَاهُ حَتَّى مَلَأَ الْأَرْضَ، مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ حُبِّ اللهِ وَالْقَرِيبِ.
وَذَكَرْتُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ أَنَّنِي عَاشَرْتُ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ الْإِنْكِلِيزِ الَّذِينَ تَقَلَّدُوا بَعْضَ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ بِمِصْرَ، فَكُنْتُ كُلَّمَا ذَكَرْتُ لَهُ شَيْئًا مِنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ يَتَعَجَّبُ وَيَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ يَعْتَقِدُ هَذَا، أَوْ هَذَا فَلْسَفَةٌ لَا دِينٌ، وَأَنَّهُ قَالَ لِي مَرَّةً إِنْ كَانَ مَا تَقُولُهُ هُوَ الْإِسْلَامُ حَقِيقَةً فَأَنَا مُسْلِمٌ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى مَازِحًا: إِمَّا أَنْ أَكُونَ أَنَا مُسْلِمًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَنْتَ كَافِرًا!! وَفَسَّرَ هَذِهِ بِكَلِمَةٍ ثَالِثَةٍ قَالَهَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ خُلَاصَتُهَا: إِذَا سَأَلْنَا عُلَمَاءَ الْأَزْهَرِ عَمَّا تَقُولُهُ أَنْتَ وَالشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي الْإِسْلَامِ فَوَافَقُوا عَلَيْهِ فَأَنَا أُعْلِنُ إِسْلَامِي، وَلَكِنْ أَرَى أَنَّكُمَا أُوتِيتُمَا مِنَ الْعِلْمِ الْفَلْسَفَةَ الْعَالِيَةَ فِي الدِّينِ مَا لَا يُنْكِرُهُ عَالِمٌ عَاقِلٌ، فَأَنْتُمَا تُسْنِدَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ يُبَايِنُهُ. قُلْتُ لَهُ: إِنَّنِي مُسْتَعِدٌّ لِإِثْبَاتِ كُلِّ مَا أَقُولُهُ لَكَ فِي الْإِسْلَامِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، وَكُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي مَسْأَلَةٍ فَاسْتَدْلَلْتُ عَلَيْهَا بِآيَةٍ مِنْ سُورَةِ الرُّومِ، وَدَلَلْتُهُ عَلَيْهَا فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ أَنَّ كُلَّ مَا أَقُولُهُ لَهُ كَذَلِكَ.